فصل: باب المبالغة في الاستنشاق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب المضمضة والاستنشاق

1- عن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أنه دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثًا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين ثم قال‏:‏ رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال‏:‏ من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأفرغ على كفيه ثلاث مرات‏)‏ هذا دليل على أن غسلهما في أول الوضوء سنة‏.‏

قال النووي‏:‏ وهو كذلك باتفاق العلماء وقد أسلفنا الكلام عليه في الباب الذي قبل هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمضمض‏)‏ المضمضة هي أن يجعل الماء في فيه ثم يديره ثم يمجه قال النووي‏:‏ وأقلها أن يجعل الماء في فيه ولا يشترط إدارته على المشهور وعند الجمهور وعند جماعة من أصحاب الشافعي وغيرهم أن الإدارة شرط والمعول عليه في مثل هذا الرجوع إلى مفهوم المضمضة لغة وعلى ذلك تنبني معرفة الحق‏.‏ والذي في القاموس وغيره أن المضمضة تحريك الماء في الفم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واستنثر‏)‏ في رواية للبخاري واستنشق والاستنثار أعم قاله في الفتح‏.‏ قال النووي‏:‏ قال جمهور أهل اللغة والفقهاء والمحدثون‏:‏ الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق‏.‏ وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة‏:‏ الاستنثار هو الاستنشاق قال‏:‏ قال أهل اللغة‏:‏ هو مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف‏.‏

وقال الخطابي وغيره‏:‏ هي الأنف والمشهور الأول قال الأزهري‏:‏ روى سلمة عن الفراء أنه يقال نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة في الطهارة انتهى‏.‏ وفي القاموس استنثر استنشق الماء ثم استخرج ذلك بنفس الأنف كانتثر‏.‏ وقال في الاستنشاق استنشق الماء أدخله في أنفه‏.‏

إذا تقرر لك معنى المضمضة والاستنثار والاستنشاق لغة فاعلم أنه قد اختلف في الوجوب وعدمه فذهب أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر ومن أهل البيت الهادي والقاسم والمؤيد باللَّه إلى وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار وبه قال ابن أبي ليلى وحماد بن سليمان‏.‏ وفي شرح مسلم للنووي أن مذهب أبي ثور وأبي عبيد وداود الظاهري وأبي بكر بن المنذر ورواية عن أحمد أن الاستنشاق واجب في الغسل والوضوء والمضمضة سنة فيهما وما نقل من الإجماع على عدم وجوب الاستنثار متعقب بهذا‏.‏

واستدلوا على الوجوب بأدلة منها أنه من تمام غسل الوجه فالأمر بغسله أمر بها وبحديث أبي هريرة المتفق عليه‏:‏ ‏(‏إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر‏)‏ وبحديث سلمة بن قيس عند الترمذي والنسائي بلفظ‏:‏ ‏(‏إذا توضأت فانتثر‏)‏ وبما أخرج أحمد والشافعي وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي وأهل السنن الأربع من حديث لقيط بن صبرة في حديث طويل وفيه‏:‏ ‏(‏وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا‏)‏ وفي رواية من هذا الحديث‏:‏ ‏(‏إذا توضأت فمضمض‏)‏ أخرجها أبو داود وغيره‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ إن إسنادها صحيح وقد رد الحافظ أيضًا في التلخيص ما أعل به حديث لقيط من أنه لم يرو عن عاصم بن لقيط بن صبرة إلا إسماعيل بن كثير وقال‏:‏ ليس بشيء لأنه روى عنه غيره وصححه الترمذي والبغوي وابن القطان وقال النووي‏:‏ هو حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة‏.‏

ومن أدلة القائلين بالوجوب حديث أبي هريرة الذي سيذكره المصنف في هذا الباب بلفظ‏:‏ ‏(‏أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالمضمضة والاستنشاق‏)‏ عند الدارقطني‏.‏

وذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث والحسن البصري والزهري وربيعة ويحيى بن سعيد وقتادة والحكم بن عتيبة ومحمد بن جرير الطبري والناصر من أهل البيت إلى عدم الوجوب‏.‏

وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وزيد بن علي من أهل البيت عليهم السلام إلى أنهما فرض في الجنابة وسنة في الوضوء فإن تركهما في غسله من الجنابة أعاد الصلاة‏.‏

واستدلوا على عدم الوجوب في الوضوء بحديث‏:‏ ‏(‏عشر من سنن المرسلين‏)‏ وقد رده الحافظ في التلخيص وقال‏:‏ إنه لم يرد بلفظ عشر من السنن بل بلفظ من الفطرة ولو ورد لم ينتهض دليلًا على عدم الوجوب لأن المراد به السنة أي الطريقة لا السنة بالمعنى الاصطلاحي الأصولي وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم‏.‏

واستدلوا أيضًا بحديث ابن عباس مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏(‏المضمضة والاستنشاق سنة‏)‏ رواه الدارقطني قال الحافظ‏:‏ وهو حديث ضعيف وبحديث‏:‏ ‏(‏توضأ كما أمرك اللَّه‏)‏ وليس في القرآن ذكر المضمضة والاستنشاق والاستنثار‏.‏ ورد بأن الأمر بغسل الوجه أمر بها كما سبق وبأن وجوبها ثبت بأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم والأمر منه أمر من اللَّه بدليل ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏}‏ ‏{‏قل إن تحبون اللَّه فاتبعوني‏}‏ وتمكن مناقشة هذا بأنه إنما يتم لو أحاله فقط كما وقع لابن دقيق العيد وغيره‏.‏

وأما بالنظر إلى تمام الحديث وهو فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك فيصير نصًا على أن المراد كما أمرك اللَّه في خصوص آية الوضوء لا في عموم القرآن فلا يكون أمره صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالمضمضة داخلًا تحت قوله‏:‏ للأعرابي ‏(‏كما أمرك اللَّه‏)‏ فيقتصر في الجواب على أنه قد صح أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بها والواجب الأخذ بما صح عنه ولا يكون الاقتصار على البعض في مبادئ التعاليم ونحوها موجبًا لصرف ما ورد بعده وإخراجه عن الوجوب وإلا لزم قصر واجبات الشريعة بأسرها على الخمس المذكورة في حديث ضمام بن ثعلبة مثلًا لاقتصاره على ذلك المقدار في تعليمه‏.‏

وهذا خرق للإجماع وإطراح لأكثر الأحكام الشرعية وعلى ما سلف من أن الأمر بغسل الوجه أمر بها وهذا وإن كان مستبعدًا في بادئ الرأي باعتبار أن الوجه في لغة العرب معلوم المقدار لكنه يشد من عضد دعوى الدخول في الوجه أنه لا موجب لتخصيصه بظاهره دون باطنه فإن الجميع في لغة العرب يسمى وجهًا‏.‏

ـ فإن قلت‏:‏ ـ قد أطلق على خرق الفم والأنف اسم خاص فليسا في لغة العرب وجهًا‏.‏ قلت‏:‏ وكذلك أطلق على الخدين والجبهة وظاهر الأنف والحاجبين وسائر أجزاء الوجه أسماء خاصة فلا تسمى وجهًا وهذا في غاية السقوط لاستلزامه عدم وجوب غسل الوجه‏.‏

ـ فإن قلت‏:‏ ـ يلزم على هذا وجوب غسل باطن العين قلت‏:‏ يلتزم لولا اقتصار الشارع في البيان على غسل ما عداه وقد بين لنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ما نزل إلينا فداوم على المضمضة والاستنشاق ولم يحفظ أنه أخل بهما مرة واحدة كما ذكره ابن القيم في الهدي ولم ينقل عنه أنه غسل باطن العين مرة واحدة على أنه قد ذهب إلى وجوب غسل باطن العين ابن عمر والمؤيد باللَّه من أهل البيت وروي في البحر عن الناصر والشافعي أنه يستحب واستدل لهم بظاهر الآية وسيأتي متمسك لمن قال بذلك من باب تعاهد الماقين‏.‏

وقد اعترف جماعة من الشافعية وغيرهم بضعف دليل من قال بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا بكونه لا يعلم خلافًا في أن تاركه لا يعيد وهذا دليل فقهي فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين إلا عن عطاء وهكذا ذكر ابن حزم في المحلي‏.‏

وذكر ابن سيد الناس في شرح الترمذي بعد أن ساق حديث لقيط بن صبرة ما لفظه‏:‏ وقال أبو بشر الدولابي فيما جمعه من حديث الثوري حدثنا محمد بن بشار أخبرنا ابن مهدي عن سفيان عن أبي هاشم عن عاصم بن لقيط عن أبيه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏إذا توضأت فأبلغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائمًا‏)‏ قال أبو الحسين ابن القطان‏:‏ وهذا صحيح فهذا أمر صحيح صريح وانضم إليه مواظبة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فثبت ذلك عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قولًا وفعلًا مع المواظبة على الفعل انتهى‏.‏

ومن جملة ما أورده في شرح الترمذي من الأدلة القاضية بوجوب المضمضة والاستنشاق حديث عائشة عند البيهقي بلفظ‏:‏ ‏(‏إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه‏)‏ وقد ضعف بمحمد بن الأزهري الجوزجاني وقد رواه البيهقي لا من طريقه فرواه عن أبي سعيد أحمد بن محمد الصوفي عن ابن عدي الحافظ عن عبد اللَّه بن سليمان بن الأشعث عن الحسين بن علي بن مهران عن عصام بن يوسف عن ابن المبارك عن ابن جريج عن سليمان بن يسار عن الزهري عن عروة عنها‏.‏

إذا تقرر هذا علمت أن المذهب الحق وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم غسل وجهه ثلاث مرات‏)‏ وكذلك سائر الأعضاء إلا الرأس فإنه لم يذكر فيه العدد فيه دليل على أن السنة الاقتصار في مسح الرأس على واحدة لأن المطلق يصدق بمرة وقد صرحت الأحاديث الصحيحة بالمرة وفيه خلاف وسيأتي الكلام على ذلك في باب هل يسن تكرار مسح الرأس‏.‏

وقد أجمع العلماء على أن الواجب غسل الأعضاء مرة واحدة وأن الثلاث سنة لثبوت الاقتصار من فعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم على مرة واحدة ومرتين وسيأتي لذلك باب في هذا الكتاب‏.‏

وقد استدل بما وقع في حديث الباب من الترتيب بثم على وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء وقال ابن مسعود ومكحول ومالك وأبو حنيفة وداود والمزني والثوري والبصري وابن المسيب وعطاء والزهري والنخعي‏:‏ إنه غير واجب ولا ينتهض الترتيب بثم في حديث الباب على الوجوب لأنه من لفظ الراوي وغايته أنه وقع من النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم على تلك الصفة والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب نعم قوله‏:‏ في آخر الحديث ‏(‏من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏ يشعر بترتيب المغفرة المذكورة على وضوء مرتب على هذا الترتيب وأما أنه يدل على الوجوب فلا‏.‏

وقد استدل على الوجوب بظاهر الآية وهو متوقف على إفادة الواو للترتيب وهو خلاف ما عليه جمهور النحاة وغيرهم‏.‏

وأصرح أدلة الوجوب حديث إنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏توضأ على الولاء ثم قال‏:‏ هذا وضوء لا يقبل اللَّه الصلاة إلا به‏)‏ وفيه مقال لا أظنه ينتهض معه‏.‏ وقد خلط فيه بعض المتأخرين فخرجه من طرق وجعل بعضها شاهد البعض وليس الأمر كما ذكر فليراجع الحديث في مظانه فإن التكلم على ذلك ههنا يفضي إلى تطويل يخرجنا عن المقصود وسيأتي التصريح بما هو الحق في الباب الذي بعد هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى المرفقين‏)‏ المرفق فيه وجهان أحدهما فتح الميم وكسر الفاء والثاني عكسه لغتان‏.‏ واتفق العلماء على وجوب غسلهما ولم يخالف في ذلك إلا زفر وأبو بكر بن داود الظاهري فمن قال بالوجوب جعل إلى في الآية بمعنى مع ومن لم يقل به جعلها لانتهاء الغاية‏.‏

واستدل لغسلهما أيضًا بحديث ‏(‏إنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال هذا وضوء لا يقبل اللَّه الصلاة إلا به‏)‏ عند الدارقطني والبيهقي من حديث جابر مرفوعًا وفيه القاسم بن محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل وهو متروك وقال أبو زرعة‏:‏ منكر وضعفه أحمد وابن معين وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات ولم يلتفت إليه في ذلك وصرح بضعف هذا الحديث المنذري وابن الجوزي وابن الصلاح والنووي وغيرهم‏.‏

واستدل لذلك أيضًا بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ‏:‏ ‏(‏توضأ حتى أشرع في العضد ثم قال‏:‏ هكذا رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏)‏ وفيه أنه فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب وأجيب بأنه بيان للمجمل فيفيد الوجوب ورد بأنه لا إجمال لأن إلى الحقيقة في انتهاء الغاية مجاز في معنى مع‏.‏ وقد حقق الكلام في ذلك الرضي في شرح الكافية وغيره فليرجع إليه‏.‏

واستدل أيضًا لذلك أنه من مقدمة الواجب فيكون واجبًا وفيه خلاف في الأصول معروف وسيعقد المصنف لذلك بابًا سيأتي إن شاء اللَّه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى الكعبين‏)‏ هما العظمان النابتان بين مفصل الساق والقدم باتفاق العلماء ما عدا الإمامية ومحمد بن الحسن‏.‏ قال النووي‏:‏ ولا يصح عنه‏.‏ وقد اختلف هل الواجب الغسل أو يكفي المسح وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللَّه تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يحدث فيهما نفسه‏)‏ قال النووي‏:‏ والمراد لا يحدثها بشيء من أمور الدنيا ولو عرض له حديث فأعرض عنه حصلت له هذه الفضيلة لأن هذا ليس من فعله وقد غفر لهذه الأمة ما حدثت به نفوسها هذا معنى كلامه‏.‏

قال في الفتح‏:‏ ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا وهي في الزهد لابن المبارك والمصنف لابن أبي شيبة‏.‏ قال المازري والقاضي عياض‏:‏ المراد بحديث النفس المجتلب والمكتسب وأما ما يقع في الخاطر غالبًا فليس هو المراد‏.‏

قال عياض‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يحدث نفسه‏)‏ فيه إشارة إلى أن ذلك الحديث مما يكتسبه لإضافته إليه‏.‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ إن حديث النفس على قسمين‏:‏ أحدهما ما يهجم هجمًا يتعذر دفعه عن النفس‏.‏ والثاني ما تسترسل معه النفس ويمكن قطعه ودفعه‏.‏ فيمكن أن يحمل الحديث على هذا النوع الثاني فيخرج عنه الأول لعسر اعتباره ويشهد لذلك لفظ يحدث نفسه فإنه يقتضي تكسبًا منه وتفعلًا لهذا الحديث قال‏:‏ ويمكن حمله على النوعين معًا إلى آخر كلامه‏.‏

والحاصل أن الصيغة مشعرة بشيئين أحدهما أن يكون غير مغلوب بورود الخواطر النفسية لأن من كان كذلك لا يقال له محدث لانتفاء الاختيار الذي لا بد من اعتباره‏.‏ ثانيهما أن يكون مريدًا للتحديث طالبًا له على وجه التكلف ومن وقع له ذلك هجومًا وبغتة لا يقال إنه حدث نفسه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه‏)‏ رتب هذه المثوبة على مجموع الوضوء الموصوف بتلك الصفة وصلاة الركعتين المقيدة بذلك القيد فلا تحصل إلا بمجموعهما‏.‏ وظاهره مغفرة جميع الذنوب وقد قيل إنه مخصوص بالصغائر لورود مثل ذلك مقيدًا كحديث‏:‏ ‏(‏الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينها ما اجتنبت الكبائر‏)‏‏.‏

2- وعن علي رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أنه دعا بوضوء فتمضمض ونثر بيده اليسرى ففعل هذا ثلاثًا ثم قال‏:‏ هذا طهور نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنسائي‏.‏

الحديث إسناده في سنن النسائي هكذا حدثنا موسى بن عبد الرحمن قال حدثنا حسين بن علي عن زائدة قال حدثنا خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي قدس سره‏:‏ فموسى بن عبد الرحمن إن كان ابن سعيد بن مسروق الكندي فهو ثقة وإن كان الحلبي الأنطاكي فهو صدوق يغرب وكلاهما روى عنه النسائي‏.‏ وأما خالد بن علقمة فهو الهمداني قال ابن معين ثقة‏.‏ وقال في التقريب‏:‏ صدوق وبقية رجال الإسناد ثقات وهو طرف من حديث علي عليه السلام وسيأتي الكلام على المضمضة والاستنشاق والاستنثار قد تقدم‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه‏:‏ وفيه مع الذي قبله دليل على أن السنة أن يستنشق باليمين ويستنثر باليسرى انتهى‏.‏

3- وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

قد تقدم الكلام على تفسير الاستنثار وعلى وجوبه في حديث عثمان‏.‏

4- وعن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالمضمضة والاستنشاق‏)‏‏.‏

رواه الدارقطني‏.‏

قد سلف الكلام على المضمضة والاستنشاق تفسيرًا وحكمًا‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى‏:‏ وقال يعني الدارقطني لم يسنده عن حماد غير هدبة وداود بن المحبر وغيرهما يرويه عنه عن عمار عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا يذكر أبا هريرة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لا يضر لأن هدبة ثقة مخرج عنه في الصحيحين فيقبل رفعه وما ينفرد به انتهى‏.‏

وقد ذكر هذا الحديث ابن سيد الناس في شرح الترمذي منسوبًا إلى أبي هريرة ولم يتكلم عليه وعادته التكلم على ما فيه وهن‏.‏

 باب ما جاء في جواز تأخيرهما على غسل الوجه واليدين

1- عن المقدام بن معد يكرب قال‏:‏ ‏(‏أتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثًا وغسل وجهه ثلاثًا ثم غسل ذراعيه ثلاثًا ثلاثًا ثم مضمض واستنشق ثلاثًا ثلاثًا ثم مسح برأسه وآذنيه ظاهرهما وباطنهما‏)‏‏.‏

رواه أبو داود وأحمد وزاد ‏(‏وغسل رجليه ثلاثًا ثلاثًا‏)‏‏.‏

الحديث إسناده صالح وقد أخرجه الضياء في المختارة وهو يدل على عدم وجوب الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين‏.‏

وحديث عثمان وعبد اللَّه بن زيد الثابتان في الصحيحين‏.‏ وحديث علي الثابت عند أبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبزار وغيرهم مصرحة بتقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه واليدين‏.‏

والحديث من أدلة القائلين بعدم وجوب الترتيب وقد سبق ذكرهم في شرح حديث عثمان‏.‏

وحديث الربيع الآتي بعد هذا يدل أيضًا على عدم وجوب الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه‏.‏

قال النووي‏:‏ إنهم يتأولون هذه الرواية على أن لفظة ثم ليست للترتيب بل لعطف جملة على جملة‏.‏ وقد ذكر الفاضل الشلبي في صدر حواشيه على شرح المواقف أن المحققين من النحاة نصوا على أن وجوب دلالة ثم على التراخي مخصوص بعطف المفرد‏.‏ وقد ذكره أيضًا في حواشي المطول‏.‏

وقد ذكر الرضي في شرح الكافية وابن هشام في المغني أنها قد تأتي لمجرد الترتيب فظهر بهذا أنها مشتركة بين المعنيين لا أنها حقيقة في الترتيب ولكن لا يخفى عليك أن هذا التأويل وإن نفع القائل بوجوب الترتيب في حديث الباب وما بعده فهو يجري في دليله الذي عارض به حديثي الباب أعني حديث عثمان وعبد اللَّه بن زيد وعلي فلا يدل على تقديم المضمضة والاستنشاق كما لا يدل هذا على تأخيرهما فدعوى وجوب الترتيب لا تتم إلا بإبراز دليل عليها يتعين المصير إليه وقد عرفناك في شرح حديث عثمان عدم انتهاض ما جاء به مدعي وجوب الترتيب على المطلوب نعم حديث جابر عند النسائي في صفة حج النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏ابدؤوا بما بدأ اللَّه به‏)‏ بلفظ الأمر وهو عند مسلم بلفظ الخبر يصلح للاحتجاج به على وجوب الترتيب لأنه عام لا يقصر على سببه عند الجمهور كما تقرر في الأصول وآية الوضوء مندرجة تحت ذلك العموم‏.‏

2- وعن العباس بن يزيد عن سفيان بن عيينة عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قال‏:‏ ‏(‏أتيتها فأخرجت إليَّ إناء فقالت‏:‏ في هذا كنت أخرج الوضوء لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثًا ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثًا ثم يمضمض ويستنشق ثلاثًا ثم يغسل يديه ثم يمسح برأسه مقبلًا ومدبرًا ثم يغسل رجليه‏)‏‏.‏

قال العباس بن يزيد‏:‏ هذه المرأة التي حدثت عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه بدأ بالوجه قبل المضمضة والاستنشاق وقد حدث به أهل بدر منهم عثمان وعلى أنه بدأ بالمضمضة والاستنشاق قبل الوجه والناس عليه رواه الدارقطني‏.‏

الحديث رواه الدارقطني عن شيخه إبراهيم بن حماد عن العباس المذكور وأخرجه أيضًا أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وله عنها طرق وألفاظ مدارها على عبد اللَّه بن محمد بن عقيل وفيه مقال‏.‏

وهو يدل على عدم وجوب الترتيب بين المضمضة وغسل الوجه وقد عرفت في الحديث الذي قبله ما هو الحق‏.‏

 باب المبالغة في الاستنشاق

1- عن لقيط بن صبرة قال‏:‏ ‏(‏قلت يا رسول اللَّه أخبرني عن الوضوء قال‏:‏ أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا‏)‏‏.‏

رواه الخمسة وصححه الترمذي‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا الشافعي وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق إسماعيل بن كثير المكي عن عاصم بن لقيط عن أبيه مطولًا ومختصرًا‏.‏ قال الخلال عن أبي داود عن أحمد عاصم لم يسمع عنه بكثير رواية انتهى‏.‏ ويقال لم يرو عنه غير إسماعيل قال الحافظ‏:‏ وليس بشيء لأنه روى عنه غيره وصححه الترمذي والبغوي وابن القطان وهذا اللفظ عندهم من رواية وكيع عن الثوري عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط عن أبيه‏.‏

وروى الدولابي في حديث الثوري من جمعه من طريق ابن مهدي عن الثوري ولفظه‏:‏ ‏(‏وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائمًا‏)‏ وفي رواية لأبي داود من طريق أبي عاصم عن ابن جريج عن إسماعيل بن كثير بلفظ‏:‏ ‏(‏إذا توضأت فتمضمض‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ إسناد هذه الرواية صحيح‏.‏

وقال النووي‏:‏ حديث لقيط بن صبرة أسانيده صحيحة وقد وثق إسماعيل بن كثير أحمد وقال أبو حاتم‏:‏ هو صالح الحديث‏.‏ وقال ابن سعد‏:‏ ثقة كثير الحديث وأبو عاصم وثقه أبو حاتم ومن عدا هذين من رجال إسناده فمخرج له في الصحيح قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي‏.‏ وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس ‏(‏فخلل بين أصابعك‏)‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف وقد تقدم الترمذي إلى تحسين هذا الحديث البخاري روى ذلك عنه الترمذي في كتاب العلل ولكن الراوي عنه موسى بن عقبة وسماعه منه قبل أن يختلط‏.‏

وأخرج الترمذي أيضًا من حديث المستورد قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره‏)‏ وقال‏:‏ حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة وغرابته والذي قبله ترجع إلى الإسناد فلا ينافي الحسن قاله ابن سيد الناس‏.‏

وقد شارك ابن لهيعة في روايته عن يزيد بن عمر والليث بن سعد وعمرو بن الحارث فالحديث إذن صحيح سالم عن الغرابة‏.‏

وفي الباب مما ليس عند الترمذي عن عثمان وأبي هريرة والربيع بنت معوذ بن عفراء وعائشة وأبي رافع‏.‏

فحديث عثمان عند الدارقطني وحديث أبي هريرة عند الدارقطني أيضًا وحديث الربيع عند الطبراني وحديث عائشة عند الدارقطني وحديث أبي رافع عند ابن ماجه والدارقطني‏.‏

والحديث يدل على مشروعية إسباغ الوضوء والمراد به الانقاء واستكمال الأعضاء والحرص على أن يتوضأ وضوءًا يصح عند الجميع وغسل كل عضو ثلاث مرات هكذا قيل فإذا كان التثليث مأخوذًا في مفهوم الإسباغ فليس بواجب لحديث أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم توضأ مرة ومرتين وإن كان مجرد الانقاء والاستكمال فلا نزاع في وجوبه‏.‏

ويدل أيضًا على وجوب تخليل الأصابع فيكون حجة على الإمام يحيى القائل بعدم الوجوب‏.‏

ويدل أيضًا على وجوب الاستنشاق وقد تقدم الكلام عليه في حديث عثمان وإنما كره المبالغة للصائم خشية أن ينزل إلى حلقه ما يفطره واستدل به على عدم وجوب المبالغة لأن الوجوب يستلزم عدم جواز الترك وفيه ما لا يخفى‏.‏

وعن ابن عباس عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثًا‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا الحاكم وابن الجارود وصححه ابن القطان وذكره الحافظ في التلخيص ولم يذكره بضعف وكذلك المنذري في تخريج السنن عزاه إلى ابن ماجه ولم يتكلم فيه‏.‏

والحديث يدل على وجوب الاستنثار وقد تقدم ذكر الخلاف فيه في شرح حديث عثمان‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ ‏(‏بالغتين‏)‏ أنهما في أعلى نهاية الاستنثار من قوله‏:‏م بلغت المنزل وأما تقييد الأمر بالاستنثار بمرتين أو ثلاثًا فيمكن الاستدلال على عدم وجوب الثانية والثالثة بحديث الوضوء مرة ويمكن القول بإيجاب مرتين أو ثلاث إما لأنه خاص وحديث الوضوء مرة عام وإما لأنه قول خاص بنا فلا يعارضه فعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم كما تقرر في الأصول والمقام لا يخلو عن مناقشته في كلا الطرفين ‏[‏الظاهر أن الاستنثار في الوضوء لا يجب إلا مرة واحدة والثانية والثالثة سنة غير أنها مؤكدة بذلك الأمر الذي صرف عن الوجوب باكتفاء النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بمرة لأن الظاهر أنه مخصص ومبين واللَّه أعلم‏]‏‏.‏

 باب غسل المسترسل من اللحية

1- عن عمرو بن عبسة قال‏:‏ ‏(‏قلت يا رسول اللَّه حدثني عن الوضوء قال‏:‏ ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا غسل وجهه كما أمره اللَّه إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ثم يمسح برأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء‏)‏‏.‏

أخرجه مسلم ورواه أحمد وقال فيه‏:‏ ‏(‏ثم يمسح رأسه كما أمر اللَّه ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره اللَّه‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خرت خطاياه‏)‏ أي سقطت والخر والخرور السقوط أو من علو إلى سفل‏.‏

والحديث من أحاديث فضائل الوضوء الدالة على عظم شأنه ومثله حديث أبي هريرة مرفوعًا عند مسلم ومالك والترمذي بلفظ‏:‏ ‏(‏إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء وإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيًا من الذنوب‏)‏ ومثله حديث عبد اللَّه الصنابحي عند مالك والنسائي‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له‏)‏ والمراد بالخطايا قال النووي وغيره‏:‏ الصغائر‏.‏

وظاهر الأحاديث العموم والتخصيص بما وقع في الأحاديث الأخر بلفظ‏:‏ ‏(‏ما لم تغش الكبائر‏)‏ وبلفظ‏:‏ ‏(‏ما اجتنبت الكبائر‏)‏ قد ذهب إليه جماعة من شراح الحديث وغيرهم‏.‏ والمراد بالخرور والخروج مع الماء المجاز عن الغفران لأن ذلك مختص بالأجسام والخطايا ليست متجسمة‏.‏

وفي حديث الباب وما بعده رد لمذهب الإمامية في وجوب مسح الرجلين‏.‏

وقد ساق المصنف رحمه اللَّه تعالى الحديث للاستدلال به على غسل المسترسل من اللحية لقوله‏:‏ فيه ‏(‏إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء‏)‏ وفيه خلاف فذهب المؤيد باللَّه وأبو طالب وأبو حنيفة إلى عدم الوجوب إن أمكن التخليل بدونه وذهب أبو العباس إلى وجوبه وهو مذهب الشافعي في إحدى الروايات واستدلوا بالقياس على شعر الحاجبين ورد بأن شعر الحاجبين من الوجه لغة لا المسترسل‏.‏

وقد استنبط المصنف رحمه اللَّه تعالى من الحديث فوائد فقال‏:‏ فهذا يدل على أن غسل الوجه المأمور به يشتمل على وصول الماء إلى أطراف اللحية‏.‏

وفيه دليل على أن داخل الفم والأنف ليس من الوجه حيث بين أن غسل الوجه المأمور به غيرهما ويدل على مسح كل الرأس حيث بين أن المسح المأمور به يشتمل على وصول الماء إلى أطراف الشعر‏.‏

ويدل على وجوب الترتيب في الوضوء لأنه وصفه مرتبًا وقال في مواضع منه كما أمره اللَّه عز وجل انتهى‏.‏

وقد قدمنا الكلام على أن داخل الفم والأنف من الوجه وعلى الترتيب‏.‏ وسيأتي الكلام على مسح الرأس‏.‏

 باب في أن إيصال الماء إلى باطن اللحية الكثة لا يجب‏‏

1- عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما‏:‏ ‏(‏أنه توضأ فغسل وجهه فأخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنشق ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ثم مسح برأسه ثم أخذ غرفة من ماء فرش بها على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى ثم قال‏:‏ هكذا رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يتوضأ‏)‏‏.‏

رواه البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فغسل وجهه‏)‏ الفاء تفصيلية لأنها داخلة بين المجمل والمفصل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذ غرفة‏)‏ هو بيان لقوله‏:‏ ‏(‏فغسل‏)‏ قال الحافظ‏:‏ وظاهره أن المضمضة والاستنشاق من جملة غسل الوجه لكن المراد بالوجه أولًا ما هو أعم من المفروض والمسنون بدليل أنه أعاد ذكره ثانيًا بعد ذكر المضمضة والاستنشاق بغرفة مستقلة وفيه دليل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة وغسل الوجه باليدين جميعًا إذا كان بغرفة واحدة لأن اليد الواحدة قد لا تستوعبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أضافها‏)‏ بيان لقوله‏:‏ فجعل بها هكذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فغسل بها‏)‏ أي الغرفة‏.‏ وفي رواية بهما أي اليدين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم مسح برأسه‏)‏ لم يذكر له غرفة مستقلة قال الحافظ‏:‏ قد يتمسك به من يقول بطهورية الماء المستعمل لكن في رواية أبي داود ‏(‏ثم قبض قبضة من الماء ثم نفض يده ثم مسح رأسه‏)‏ زاد النسائي ‏(‏وأذنيه مرة واحدة‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرش‏)‏ أي سكب الماء قليلًا قليلًا إلى أن صدق عليه مسمى الغسل بدليل قوله‏:‏ ‏(‏حتى غسلها‏)‏ وفي رواية لأبي داود والحاكم ‏(‏فرش على رجله اليمنى وفيها النعل ثم مسحها بيديه يد فوق القدم ويد تحت النعل‏)‏ فالمراد بالمسح تسييل الماء حتى يستوعب العضو‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏تحت النعل‏)‏ فإن لم يحمل على التجوز عن القدم فهي رواية شاذة وراويها هشام بن سعد لا يحتج بما تفرد يه فكيف إذا خالف قاله الحافظ‏.‏

والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على عدم وجوب إيصال الماء إلى باطن اللحية فقال‏:‏ وقد علم أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان كث اللحية وأن الغرفة الواحدة وإن عظمت لا تكفي غسل باطن اللحية الكثة مع غسل جميع الوجه فعلم أنه لا يجب‏.‏

وفيه أنه مضمض واستنشق بماء واحد انتهى‏.‏

أما الكلام على وجوب إيصال الماء إلى باطن اللحية فسيأتي في الباب الذي بعد هذا‏.‏ وأما أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان كث اللحية فقد ذكر القاضي عياض ورود ذلك في أحاديث جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة كذا قال‏.‏

وفي مسلم من حديث جابر‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كثير شعر اللحية‏)‏ وروى البيهقي في الدلائل من حديث علي ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عظيم اللحية‏)‏ وفي رواية ‏(‏كث اللحية‏)‏ وفيها من حديث هند بن أبي هالة مثله‏.‏ ومن حديث عائشة مثله‏.‏ وفي حديث أم معبد المشهور في لحيته كثافة قاله الحافظ في التلخيص‏.‏

 باب استحباب تخليل اللحية

1- عن عثمان رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يخلل لحيته‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏

2- وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان إذا توضأ أخذ كفًا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال‏:‏ هكذا أمرني ربي عز وجل‏)‏‏.‏

رواه أبو داود

أما حديث عثمان فأخرجه أيضًا ابن خزيمة والحاكم والدارقطني وابن حبان وفيه عامر بن شقيق ضعفه يحيى بن معين‏.‏ وقال البخاري‏:‏ حديثه حسن‏.‏ وقال الحاكم‏:‏ لا نعلم فيه طعنًا بوجه من الوجوه وأورد له شواهد‏.‏

وأما حديث أنس المذكور في الباب ففي إسناده الوليد بن زوران وهو مجهول الحال قال الحافظ‏:‏ وله طرق أخرى ضعيفة عن أنس منها ما رويناه في فوائد أبي جعفر بن البحيري ومستدرك الحاكم ورجاله ثقات لكنه معلول فإنما رواه موسى بن أبي عائشة عن زيد بن أبي أنيسة عن يزيد الرقاشي عن أنس أخرجه ابن عدي وصححه ابن القطان من طريق أخرى وله طريق أخرى ذكرها الذهلي في الزهريات وهو معلول وصححه الحاكم قبل ابن القطان‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ولم تقدح هذه العلة عندهما فيه‏.‏

وفي الباب عن علي وعائشة وأم سلمة وأبي أمامة وعمار وابن عمر وجابر وابن أبي أوفى وابن عباس وعبد اللَّه بن عكبرة وأبي الدرداء‏.‏

أما حديث علي فرواه الطبراني فيما انتقاه عليه ابن مردويه وإسناده ضعيف ومنقطع قاله الحافظ‏.‏

وأما حديث عائشة فرواه أحمد قال الحافظ‏:‏ وإسناده حسن‏.‏

وأما حديث أم سلمة فرواه الطبراني والعقيلي والبيهقي بلفظ‏:‏ ‏(‏كان يخلل لحيته ويدلك عارضيه‏)‏ وفي لفظ ‏(‏كان إذا توضأ خلل لحيته‏)‏ وفي إسناده خالد بن إلياس وهو منكر الحديث‏.‏

وأما حديث أبي أمامة فرواه أبو بكر ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير قال الحافظ‏:‏ وإسناده ضعيف‏.‏

وأما حديث عمار فرواه الترمذي وابن ماجه وهو معلول‏.‏

وأما حديث عمر فرواه الطبراني في الأوسط وإسناده ضعيف وأخرجه عنه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وصححه ابن السكن بلفظ‏:‏ ‏(‏كان إذا توضأ عرك عارضيه بعد العراك ثم يشبك لحيته بأصابعه من تحتها‏)‏ وفي إسناده عبد الواحد وهو مختلف فيه واختلف فيه على الأوزاعي‏.‏

وأما حديث جابر فرواه ابن عدي وفيه أصرم بن غياث وهو متروك الحديث قاله النسائي‏.‏ وفي إسناده انقطاع قاله ابن حجر‏.‏

وأما حديث جرير فرواه ابن عدي وفيه يس الزيات وهو متروك‏.‏

وأما حديث ابن أبي أوفى أبو عبيد في كتاب الطهور وفي إسناده أبو الورقاء وهو ضعيف وهو في الطبراني‏.‏

وأما حديث ابن عباس فرواه العقيلي قال ابن حزم‏:‏ ولا يتابع عليه‏.‏

وأما حديث عبد اللَّه بن عكبرة فرواه الطبراني في الصغير بلفظ‏:‏ ‏(‏التخليل سنة‏)‏ وفيه عبد الكريم أبو أمية وهو ضعيف‏.‏

وأما حديث أبي الدرداء فرواه الطبراني وابن عدي بلفظ‏:‏ ‏(‏توضأ فخلل لحيته مرتين وقال هكذا أمرني ربي‏)‏ وفي إسناده تمام بن نجيح وهو لين الحديث قال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه‏:‏ ليس في تخليل اللحية شيء صحيح‏.‏ وقال ابن أبي حاتم عن أبيه‏:‏ لا يثبت عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في تخليل اللحية شيء ولكنه يعارض هذا تصحيح الترمذي والحاكم وابن القطان لبعض أحاديث الباب وكذلك غيرهم‏.‏

والحديثان يدلان على مشروعية تخليل اللحية وقد اختلف الناس في ذلك فذهب إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل العترة والحسن بن صالح وأبو ثور والظاهرية كذا في البحر واستدلوا بما وقع في أحاديث الباب بلفظ‏:‏ ‏(‏هكذا أمرني ربي‏)‏ وذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي إلى أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء قال مالك وطائفة من أهل المدينة ولا في غسل الجنابة‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي والليث وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري وأكثر أهل العلم‏:‏ إن تخليل اللحية واجب في غسل الجنابة ولا يجب في الوضوء هكذا في شرح الترمذي لابن سيد الناس‏.‏ قال وأظنهم فرقوا بين ذلك واللَّه أعلم لقوله‏:‏ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر‏)‏‏.‏

واستدلوا لعدم الوجوب في الوضوء بحديث ابن عباس المذكور في الباب الأول قال‏:‏ وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وأنس وعلي وسعيد بن جبير وأبي قلابة ومجاهد وابن سيرين والضحاك وإبراهيم النخعي أنهم كانوا يخللون لحاهم‏.‏ وممن روي عنه أنه كان لا يخلل إبراهيم النخعي والحسن وابن الحنفية وأبو العالية وأبو جعفر الهاشمي والشعبي ومجاهد والقاسم وابن أبي ليلى ذكر ذلك عنهم ابن أبي شيبة بأسانيده إليهم‏.‏

والإنصاف أن أحاديث الباب بعد تسليم انتهاضها للاحتجاج وصلاحيتها للاستدلال لا تدل على الوجوب لأنها أفعال وما ورد في بعض الروايات من قوله‏:‏ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏هكذا أمرني ربي‏)‏ لا يفيد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به أم لا والفرائض لا تثبت إلا بيقين والحكم على ما لم يفرضه اللَّه بالفرضية كالحكم على ما فرضه بعدمها لا شك في ذلك لأن كل واحد منهما من التقول على اللَّه بما لم يقل‏.‏ ولا شك أن الغرفة الواحدة لا تكفي كث اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته ودفع ذلك كما قال بعضهم بالوجدان مكابرة منه نعم الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته لكن بدون مجاراة على الحكم بالوجوب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الحنك‏)‏ هو باطن أعلى الفم والأسفل من طرف مقدم اللحيين‏.‏

 باب تعاهد المأقين وغيرهما من غضون الوجه بزيادة ما

1- عن أبي أمامة‏:‏ ‏(‏أنه وصف وضوء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فذكر ثلاثًا ثلاثًا قال‏:‏ وكان يتعاهد المأقين‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة أيضًا بلفظ‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الأذنان من الرأس وكان يمسح المأقين‏)‏ وذكره الحافظ في التلخيص ولم يذكر له علة ولا ضعفًا‏.‏ وقال في مجمع الزوائد ‏[‏هو كتاب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للإمام العلامة الشيخ علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي المتوفى سنة 807 وهو من نجباء تلاميذ العلامة زين الدين العراقي شيخ الحافظ ابن حجر العسقلاني ولم يكن العلامة العراقي يعتمد في شيء من أموره إلا عليه وزوجه ابنته ورزق منها أولاد وكان عجيبًا في الدين والتقوى والورع والزهد‏.‏ جمع في هذا الكتاب مؤلفه الزوائد على الصحاح الستة من أربعة كتب قديمة ودواوين للسنة النبوية العظيمة وهي مسند الإمام أحمد بن حنبل ومسند الحافظ أبي يعلى ومسند الحافظ البزار والمعاجم الثلاث للطبراني ورتبها ترتيب أبواب الفقه وأوضح بعد ذكر الحديث ما فيه من الجرح والتعديل حق الإيضاح وبين أنه من الضعاف أو الحسان أو الصحاح نسأل اللَّه القدير أن يوفق إدارة الطباعة المنيرية إلى نشره وغيره من كتب السنة العظيمة واللَّه أعلم‏]‏ ‏:‏ رواه الطبراني في الكبير من طريق سميع عن أبي أمامة وإسناده حسن وسميع ذكره ابن حبان في الثقات‏.‏ قال‏:‏ ولا أدري من هو ولا ابن من هو والظاهر أنه اعتمد في توثيقه على غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المأقين‏)‏ موق العين مجرى الدمع منها أو مقدمها أو مؤخرها كذا في القاموس‏.‏

قال الأزهري‏:‏ أجمع أهل اللغة أن الموق والماق مؤخر العين الذي يلي الأنف انتهى‏.‏ والمراد بهما في الحديث مخصر العينين‏.‏

وذكر المصنف رحمه اللَّه تعالى في التبويب غضون الوجه وهي ما تعطف من الوجه إما قياسًا على الماقين وإما استدلالًا بما في الحديث الآتي من قوله‏:‏ ‏(‏ثم أخذ بيديه فصك بهما وجهه‏)‏ والأول أظهر‏.‏ وقد ورد من حديث أخرجه ابن حبان وابن أبي حاتم وغيرهما بلفظ‏:‏ ‏(‏إذا توضأتم فأشربوا أعينكم من الماء‏)‏ وهو من حديث البختري بن عبيد بالموحدة والمعجمة وقد ضعفوه كلهم فلا يقوم به حجة كذا قاله بعضهم‏.‏ وفيه أنه ذكر في الميزان أنه وثقه وكيع وقال ابن عدي‏:‏ لا أعلم له حديثا منكرًا انتهى‏.‏ لكنه لا يكون ما تفرد به حجة لوقوع الاختلاف فيه فقد قيل إنه ضعيف وقيل متروك الحديث‏.‏ وقال البخاري‏:‏ يخالف في حديثه على أنه لم ينفرد به البختري فقد رواه ابن طاهر في صفوة التصوف من طريق ابن أبي السري لكنه قال ابن الصلاح‏:‏ لم أجد له أنا في جماعة اعتنوا بالبحث عن حاله أصلًا وتبعه النووي‏.‏

2- وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن عليًا رضي اللَّه عنهما قال‏:‏ يا ابن عباس ألا أتوضأ لك وضوء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قلت‏:‏ بلى فداك أبي وأمي قال‏:‏ فوضع إناء فغسل يديه ثم مضمض واستنشق واستنثر ثم أخذ بيديه فصك بهما وجهه وألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه ثم عاد في مثل ذلك ثلاثًا ثم أخذ كفًا بيده اليمنى فأفرغها على ناصيته ثم أرسلها تسيل على وجهه ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثًا ثم يده الأخرى مثل ذلك وذكر بقية الوضوء‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

لعل هذا اللفظ الذي ساقه المصنف رحمه اللَّه لفظ أحمد وساقه أبو داود في سننه بمعناه‏.‏ وتمام الحديث‏:‏ ‏(‏ثم مسح رأسه وطهور أذنيه ثم أدخل يديه جميعًا فأخذ حفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيها النعل ففتلها بها ثم الأخرى مثل ذلك قال‏:‏ قلت وفي النعلين قال‏:‏ وفي النعلين قال‏:‏ قلت وفي النعلين قال‏:‏ وفي النعلين‏:‏ قال‏:‏ قلت وفي النعلين قال‏:‏ وفي النعلين‏.‏

وفي رواية لأبي داود ‏(‏ومسح برأسه مرة واحدة‏)‏ وفي رواية له ‏(‏ومسح برأسه ثلاثًا‏)‏ قال المنذري‏:‏ في هذا الحديث مقال‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ سألت محمد بن إسماعيل عنه فضعفه وقال‏:‏ ما أدري ما هذا‏.‏

والحديث يدل على أنه يغسل ما أقبل من الأذنين مع الوجه ويمسح ما أدبر منهما مع الرأس وإليه ذهب الحسن بن صالح والشعبي وذهب الزهري وداود إلى أنهما من الوجه فيغسلان معه وذهب من عداهم إلى أنهما من الرأس فيمسحان معه‏.‏

وفيه أيضًا استحباب إرسال غرفة من الماء على الناصية لكن بعد غسل الوجه لا كما يفعله العامة عقيب الفراغ من الوضوء‏.‏

وفيه أنه لا يشترط في غسل الرجل نزع النعل وأن الفتل كاف وقد قدمنا عن الحافظ في باب إيصال الماء إلى باطن اللحية الكثة أن رواية المسح على النعل شاذة لأنها من طريق هشام بن سعد ولا يحتج بما تفرد به وأبو داود لم يروها من طريقه ولا ذكر المسح ولكنه رواها من طريق محمد بن إسحاق عنعنة وفيه مقال مشهور إذا عنعن‏.‏

وقد احتج من قال بتثليث مسح الرأس برواية أبي داود التي ذكرناها واحتج القائل بأنه يمسح مرة واحدة بإطلاق المسح في حديث الباب وتقييده بالمرة في رواية وسيأتي الكلام عليه في باب هل يسن تكرار المسح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وألقم إبهاميه‏)‏ جعل إبهاميه للبياض الذي بين الأذن والعذار كاللقمة توضع فيه‏.‏ واستدل بذلك الماوردي على أن البياض الذي بين الأذن والعذار من الوجه كما هو مذهب الشافعية‏.‏ وقال مالك ما بين الأذن واللحية ليس من الوجه‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ لا أعلم أحدًا من علماء الأمصار قال بقول مالك وعن أبي يوسف يجب على الأمرد غسله دون الملتحي‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى‏:‏ وفيه حجة لمن رأى ما أقبل من الأذنين من الوجه انتهى وقد تقدم‏.‏

 باب غسل اليدين مع المرفقين وإطالة الغرة

1- عن عثمان رضي اللَّه عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏هلم أتوضأ لكم وضوء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فغسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضدين ثم مسح برأسه ثم أمر بيديه على أذنيه ولحيته ثم غسل رجليه‏)‏‏.‏

رواه الدارقطني‏.‏

الحديث في إسناده ابن إسحاق وقد عنعن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هلم‏)‏ اسم فعل بمعنى قرب جاء لازمًا كقوله‏:‏ تعالى ‏{‏هلم إلينا‏}‏ ومتعديًا كقوله‏:‏ ‏{‏هلم شهداءكم‏}‏ ويستوي فيه عند الحجازيين بين الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث فيقال هلم يا رجل وهلم يا رجال وهلم يا امرأة وفي لغة بني تميم يتغير كتغير أمر المخاطب نحو هلما وهلموا وهلمي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى مس أطراف العضدين‏)‏ فيه دليل على وجوب غسل المرفقين وقد قدمنا طرفًا من الكلام عليه في شرح حديث عثمان المتفق عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ثم مسح برأسه‏)‏ إطلاق المسح يشعر بعدم التكرار وسيأتي الكلام عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أمر بيديه على أذنيه‏)‏ دليل على مشروعية مسح الأذنين وسيأتي له باب في هذا الكتاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولحيته‏)‏ قد بسطنا البحث فيه في باب استحباب تخليل اللحية‏.‏

2 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد ثم مسح رأسه ثم رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ثم قال هكذا رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يتوضأ وقال‏:‏ قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله‏)‏‏.‏

رواه مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أشرع في العضد‏)‏ وأشرع في الساق معناه أدخل الغسل فيهما قاله النووي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنتم الغر المحجلون‏)‏ قال أهل اللغة‏:‏ الغرة بياض في جبهة الفرس والتحجيل بياض في يدها ورجلها قال العلماء‏:‏ سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلًا تشبيهًا بغرة الفرس‏.‏

وهذا الحديث وغيره مصرح باستحباب تطويل الغرة والتحجيل‏.‏ والغرة غسل شيء من مقدم الرأس أو ما يجاوز الوجه زائدًا على الجزء الذي يجب غسله‏.‏ والتحجيل غسل ما فوق المرفقين والكعبين وهما مستحبان بلا خلاف واختلف في القدر المستحب على أوجه‏:‏ أحدها إنه تستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير تقدير‏.‏ والثاني إلى نصف العضد والساق‏.‏ والثالث إلى المنكب والركبتين‏.‏

قال النووي‏:‏ وأحاديث الباب تقتضي هذا كله قال‏:‏ وأما دعوى الإمام أبي الحسن ابن بطال المالكي والقاضي عياض اتفاق العلماء على أنه لا يستحب الزيادة فوق المرفق والكعب فباطلة وكيف يصح دعواهما وقد ثبت فعل ذلك عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأبي هريرة وهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا ولو خالف فيه من خالف كان محجوجًا بهذه السنن الصحيحة الصريحة وأما احتجاجهما بقوله‏:‏ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم‏)‏ فلا يصح لأن المراد زاد في عدد المرات‏.‏

قال الحافظ في التلخيص‏:‏ وقد ادعى ابن بطال في شرح البخاري وتبعه القاضي تفرد أبي هريرة بهذا يعني الغسل إلى الآباط وليس بجيد فقال‏:‏ قد قال به جماعة من السلف ومن أصحاب الشافعي وقال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن العمري عن نافع أن ابن عمر كان ربما بلغ بالوضوء إبطيه‏.‏ ورواه أبو عبيد بإسناد أصح من هذا فقال حدثنا عبد اللَّه بن صالح حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن نافع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمن استطاع منكم‏)‏ تعليق الأمر بإطالة الغرة والتحجيل بالاستطاعة قرينة قاضية بعدم الوجوب ولهذا لم يذهب إلى إيجابه أحد من الأئمة‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى‏:‏ ويتوجه منه وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله وهو مجمل فيه وفعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم بيان لمجمل الكتاب ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال ليجب بذلك انتهى‏.‏ وقد أسلفنا الكلام عليه في الكلام على حديث عثمان في أول أبواب الوضوء‏.‏